الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
[1]
/بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
فأجاب ـ رضي الله عنه: الحمـد لله، أمـا الذي أخـرجـه أصحاب الصحيـح ـ كالبخاري ومسلم ـ فأخرجوا فضـل وروي مسلم ـ أيضًا ـ عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله جَزَّأ القرآنَ ثلاثةَ أجزاءٍ. فجعل وأما حديث [الزلزلة] و وأما حديث [الفاتحة]، فروي البخاري في صحيحه عن أبي سعيد بن المعلى قال: كنت أصلي في المسجد، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه، فقلت: يا رسول الله، إني كنت أصلي. قال: (ألم يقل الله: (لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن) قال: (
وأما السؤال عن معنى هذه المعادلة مع الاشتراك في كون الجميع كلام الله، فهذا السؤال يتضمن شيئن: أحدهما: أن كلام الله هل بعضه أفضل من بعض أم لا؟ والثاني: ما معنى كون /فنقول: أما الأول، فهو مسألة كبيرة، والناس متنازعون فيها نزاعا منتشرًا، فطوائف يقولون: بعض كلام الله أفضل من بعض، كما نطقت به النصوص النبوية، حيث أخبر عن [الفاتحة] أنه لم ينزل في الكتب الثلاثة مثلها. وأخبر عن سورة [الإخلاص] أنها تعدل ثلث القرآن وعدلها لثلثه يمنع مساواتها لمقدارها في الحروف. وجعل [آية الكرسي] أعظم آية في القرآن كما ثبت ذلك في الصحيح أيضًا، وكما ثبت ذلك في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ابن كعب: (يا أبا المنذر، أتدري أي آية في كتاب الله معك أعظم؟) قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: (يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب الله أعظم؟). قال: فقلت: وقد قال تعالى: وقـد سمى الله القرآن كله مجيدًا وكريمًا وعزيزًا، وقد تحدي الخلق بأن يأتوا بمثله، أو بمثل عشر سور منه، أو بمثل سورة منه فقال: وخصه بأنه لا يقرأ في الصلاة إلا هو، فليس لأحد أن يقرأ غيره مع قراءته ولا بدون قراءته، ولا يصلي بلا قرآن، فلا يقوم غيره /مقامه مع القدرة عليه، وكذلك لا يقوم غير الفاتحة مقامها من كل وجه باتفاق المسلمين، سواء قيل بأنها فرض تعاد الصلاة بتركها، أو قيل بأنها واجبة يأثم تاركها ولا إعادة عليه، أو قيل: إنها سنة، فلم يقل أحد: إن قراءة غيرها مساوٍ لقراءتها من كل وجه. وخص القرآن بأنه لا يمس مصحفه إلا طاهر، كما ثبت ذلك عن الصحابة ـ مثل سعد وسلمان وابن عمر ـ وجماهير السلف والخلف ـ الفقهاء الأربعة ـ وغيرهم. ومضت به سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابه الذي كتبه لعمرو بن حزم الذي لا ريب في أنه كتبه له، ودل على ذلك كتاب الله. وكذلك لا يقرأ الجنب القرآن عند جماهير العلماء ـ الفقهاء الأربعة وغيرهم ـ كما دلت على ذلك السنة. وتفضيل أحد الكلامين بأحكام توجب تشريفه يدل على أنه أفضل في نفسه، وإن كان ذلك ترجيحًا لأحد المتماثلين بلا مرجح، وهذا خلاف ما علم من سنة الرب تعالى في شرعه بل وفي خلقه، وخلاف ما تدل عليه الدلائل العقلية مع الشرعية. وأيضًا، فقد قال تعالى: والقول بأن كلام الله بعضه أفضل من بعض هو القول المأثور عن السلف، وهو الذي عليه أئمة الفقهاء من الطوائف الأربعة وغيرهم، وكلام القائلين بذلك كثير منتشر في كتب كثيرة، مثل ما سيأتي ذكره عن أبي العباس بن سُرَيْج في تفسيره لهذا الحديث بأن الله أنزل القرآن على ثلاثة أقسام: ثلث منه أحكام، وثلث منه وعد ووعيد، وثلث منه الأسماء والصفات. وهذه السورة جمعت الأسماء والصفات. ومثل ما ذكره أصحاب الشافعي وأحمد في مسألة تعيين الفاتحة في الصلاة. قال أبو المظفر ـ منصور بن محمد السمعاني الشافعي في كتاب [الاصطلام] ـ: وأما قولهم: إن سائر الأحكام المتعلقة بالقرآن لا تختص بالفاتحة. قلت: سائر الأحكام قد تعلقت بالقرآن على العموم، وهذا على الخصوص؛ بدليل أن عندنا قراءة الفاتحة على التعيين مشروعة على الوجوب وعندكم على السنة. قال: وقد قال أصحابنا: إن قراءة الفاتحة لما وجبت في الصلاة وجب أن تتعين الفاتحة؛ لأن القرآن امتاز عن غيره بالإعجاز، وأقل ما يحصل به الإعجاز سورة، وهذه السورة أشرف السور؛ لأنها السبع المثاني، ولأنها تصلح عوضا عن جميع السور ولا /تصلح جميع السور عوضاً عنها؛ ولأنها تشتمل على ما لا تشتمل سورة ما على قدرها من الآيات، وذلك من الثناء والتحميد للرب والاستعانة والاستعاذة والدعاء من العبد، فإذا صارت هذه السورة أشرف السور، وكانت الصلاة أشرف الحالات، فتعينت أشرف السور في أشرف الحالات. هذا لفظه، فقد نقل عن أصحاب الشافعي أن هذه السورة أشرف السور، كما أن الصلاة أشرف الحالات، وبينوا من شرفها على غيرها ما ذكروه. وكذلك ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أحمد، كالقاضي أبي يعلى ابن القاضي أبي حازم ابن القاضي أبي يعلى ابن الفراء، قال في تعليقه ـ ومن خطه نقلت ـ قال في مسألة كون قراءة الفاتحة ركنا في الصلاة: أما الطريق المعتمد في المسألة فهو أنا نقول: الصلاة أشرف العبادات وجبت فيها القراءة، فوجب أن يتعين لها أشرف السور، والفاتحة أشرف السور، فوجب أن تتعين. قال: واعلم أنا نحتاج في تمهيد هذه الطريقة إلى شيئن: أحدهما: أن الصلاة أشرف العبادات، والثاني: أن الحمد أشرف السور. واستدل على ذلك بما ذكره قال: وأما الدليل على أن فاتحة الكتاب أشرف، فالنص، والمعنى، والحكم. أما النص، فما تقدم من أنها عوض من غيرها. وعن أبي سعيد/الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فاتحة الكتاب شفاء من السم). وقال الحسن البصري: أنزل الله مائة كتاب وأربعة كتب من السماء، أودع علومها أربعة منها: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، ثم أودع علوم هذه الأربعة الفرقان، ثم أودع علوم القرآن المفصل، ثم أودع علوم المفصل فاتحة الكتاب، فمن علم تفسيرها كان كمن علم تفسير جميع كتب الله المنزلة، ومن قرأها، فكأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والقرآن. وأما المعنى، فهو أن الله قابلها بجميع القرآن فقال: قال: وأما الحكم؛ فلأنه تستحب قراءتها في كل ركعة، ويكره الإخلال بها، ولولا أنها أشرف، لما اختصت بهذا المعنى، يدل عليه أن عند المنازعين ـ يعني أصحاب أبي حنيفة ـ أن من أخل بقراءتها، وجب عليه سجود السهو. فنقول: لا يخلو إما أن تكون ركنًا أو ليست بركن، فإن كانت ركنًا، وجب ألا تجبر بالسجود، وإن لم تكن ركنًا، وجب ألا يجب عليه سجود. قلت: يعني بذلك أن السجود لا يجب إلا بترك واجب في حال العمد، فإذا سها عنه، وجب له السجود، وما كان واجبًا، فإذا تعمد تركه، وجب أن تبطل صلاته، لأنه لم يفعل ما أمر به، بخلاف من سها عن بعض الواجبات، فإن هذا يمكن أن يجبر ما تركه بسجود السهو. ومذهب مالك وأحمد وأبي حنيفة أن سجود السهو واجب؛ لأن من الواجبات عندهم ما إذا تركه سهوًا لم تبطل الصلاة، كما لا تبطل بالزيادة سهوًا باتفاق العلماء، ولو زاد عمدًا لبطلت الصلاة. لكن مالكًا وأحمد في المشهور عنهما يقولان: /ماكان واجبًا إذا تركه عمدًا، بطلت صلاته، وإذا تركه سهوًا؛ فمنه ما يبطل الصلاة، ومنه ما ينجبر بسجود السهو، فترك الركوع والسجود والقراءة يبطل الصلاة مطلقًا، وترك التشهد الأول عندهما يبطل الصلاة عمده، ويجب السجود لسهوه. وأما أبو حنيفة فيقول: الواجب الذي ليس بفرض ـ كالفاتحة ـ إذا تركه كان مسيئًا ولا يبطل الصلاة. والشافعي لا يفرق في الصلاة بين الركن والواجب، ولكن فرق بينهما في الحج هو وسائر الأئمة. والمقصود هنا ذكر بعض من قال: إن الفاتحة أشرف من غيرها. وقال أبو عمر ابن عبد البر: وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم لأُبَي: (هل تعلم سورة ما أنزل الله لا في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلها؟) فمعناه مثلها في جمعها لمعاني الخير؛ لأن فيها الثناء على الله ـ عز وجل ـ بما هو أهله، وما يستحقه من الحمد الذي هو له حقيقة لا لغيره؛ لأن كل نعمة وخير منه لا من سواه، فهو الخالق الرازق لا مانع لما أعطي ولا معطي لما منع، وهو محمود على ذلك، وإن حَمِد غيره فإليه يعود الحمد. وفيها التعظيم له وأنه الرب للعالم أجمع ومالك الدنيا والآخرة، وهو المعبود والمستعان. وفيها تعليم الدعاء والهدي، ومجانبة طريق من ضل وغوي. والدعاء لباب العبادة. فهي أجمع سورة للخير، ليس في الكتب مثلها على هذه/ الوجوه. قال: وقد قيل: إن معنى ذلك أنها تجزئ الصلاة بها دون غيرها ولا يجزئ غيرها عنها. وليس هذا بتأويل مجتمع عليه. قلت: يعني بذلك أن في هذا نزاعًا بين العلماء، وهو كون الصلاة لا تجزئ إلا بها، وهذا يدل على أن الوصف الأول متفق عليه بين العلماء وهو أنها أفضل السور. ومن هذا الباب ما في الكتاب والسنة من تفضيل القرآن على غيره من كلام الله: التوراة والإنجيل وسائر الكتب، وأن السلف كلهم كانوا مقرين بذلك ليس فيهم من يقول: الجميع كلام الله، فلا يفضل القرآن على غيره. قال الله تعالى: ومن رجح الأول من النحاة ـ كالزجاج وغيره ـ قالوا: القصص مصدر، يقال: قص أثره يقصه قَصَصًا، ومنه قوله تعالى: ثم ذكروا: لم سميت أحسن القصص؟ فقيل: لأنه ليس في القرآن قصة تتضمن من العبر والحكم والنكت ما تتضمن هذه القصة. وقيل: لامتداد الأوقات بين مبتداها ومنتهاها. وقيل: لحسن محاورة يوسف وإخوته، وصبره على أذاهم، وإِغْضَائِهِ عن ذكر ما تعاطوه عند اللقاء، وكرمه في العفو. وقيل: لأن فيها ذكر الأنبياء والصالحين، والملائكة والشياطين، والإنس والجن، والأنعام والطير، وسير الملوك والمماليك، والتجار، والعلماء والجهال، والرجال والنساء ومكرهن وحيلهن، وفيها أيضًا ذكر التوحيد والفقه والسير، وتعبير الرؤيا والسياسة، والمعاشرة وتدبير المعاش، فصارت أحسن القصص؛ لما فيها من المعاني والفوائد التي تصلح للدين والدنيا. وقيل فيها: ذكر الحبيب والمحبوب. وقيل: [أحسن] بمعنى: أعجب. والذين يجعلون قصة يوسف أحسن القصص منهم من يعلم أن [القَصَصَ] ـ بالفتح ـ هو النبأ والخبر، ويقولون: هي أحسن الأخبار والأنباء، وكثير منهم يظن أن المراد: أحسن القِصَص ـ بالكسر ـ وهؤلاء جهال بالعربية، وكلا القولين خطأ، وليس المراد بقوله: {أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3]، قصة يوسف وحدها، بل هي مما قصه الله، ومما يدخل في أحسن القصص؛/ولهذا قال تعالى في آخر السورة ومن المعلوم أن قصة موسى وما جري له مع فرعون وغيره، أعظم وأشرف من قصة يوسف بكثير كثير؛ ولهذا هي أعظم قصص الأنبياء التي تذكر في القرآن، ثناها الله أكثر من غيرها، وبسطها وطولها أكثر من غيرها، بل قصص سائر الأنبياء ـ كنوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم من المرسلين ـ أعظم من قصة يوسف؛ ولهذا ثني الله تلك القصص في القرآن ولم يثن قصة يوسف؛ وذلك لأن الذين عادوا يوسف لما يعادوه على الدين، بل عادوه عداوة دنيوية، وحسدوه على محبة أبيه له وظلموه، فصبر واتقي الله، وابتلي ـ صلوات الله عليه ـ بمن ظلمه وبمن دعاه إلى الفاحشة، فصبر واتقي الله في هذا وفي هذا، وابتلي أيضًا بالملك، فابتلي بالسراء والضراء فصبر واتقي الله في هذا وهذا، فكانت قصته من أحسن القصص، وهي/أحسن من القصص التي لم تقص في القرآن، فإن الناس قد يظلمون ويحسدون ويدعون إلى الفاحشة ويبتلون بالملك، لكن ليس من لم يذكر في القرآن ممن اتقي الله وصبر مثل يوسف، ولا فيهم من كانت عاقبته أحسن العواقب في الدنيا والآخرة مثل يوسف. وهذا كما أن قصة أهل الكهف وقصة ذي القرنين كل منهما هي في جنسها أحسن من غيرها. فقصة ذي القرنين أحسن قصص الملوك، وقصة أهل الكهف أحسن قصص أولياء الله الذين كانوا في زمن الْفِتْرَةِ. فقـوله تعالى: وبهـذا اعتـبر النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة لما قام على باب الكعبة وقد أذل الله له الذين عادوه وحاربوه من الطلقاء ـ فقال: (ماذا أنتم قائلون؟) فقالوا: نقول: أخ كريم، وابن عم كريم. فقـال: (إني قـائل لكم كما قـال يوسف لإخوته: لكن أين قصة نوح وإبراهيم وموسى والمسيح ونحوهم ممن كانت قصته أنه دعا الخلق إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فكذبوه وآذوه وآذوا من آمن به؟ ! فإن هؤلاء أوذوا اختيارًا منهم لعبادة الله فعودوا، وأوذوا في محبة الله وعبادته باختيارهم، فإنهم لولا إيمانهم ودعوتهم الخلق إلى عبادة الله لما أوذوا، وهذا بخلاف من أوذي بغير اختياره، كما أُخِذ يوسف من أبيه بغير اختياره؛ ولهذا كانت محنة يوسف بالنسوة وامرأة العزيز، واختياره السجن على معصية الله، /أعظم من إيمانه، ودرجته عند الله وأجره من صبره على ظلم إخوته له؛ ولهذا يعظم يوسف بهذا أعظم مما يعظم بذلك؛ ولهذا قال تعالى فيه: وهذا كالصبر عن المعاصي مع الصبر على المصائب، فالأول أعظم وهو صبر المتقين أولياء الله. قال سهل بن عبد الله التُّسْتَري: أفعال البر يفعلها البر والفاجر، ولن يصبر عن المعاصي إلا صِدِّيق، ويوسف ـ صلوات الله عليه ـ كان صديقًا نبيًا. وأما من يظلم بغير اختياره ويصبر فهذا كثير، ومن لم يصبر صَبْر الكرام سَلا سَلْوَ البهائم، وكذلك إذا مكن المظلوم وقهر ظالمه فتاب الظالم وخضع له، فعفوه عنه من المحاسن والفضائل، لكن هذا يفعله خلق كثير من أهل الدين وعقلاء الدنيا، فإن حلم الملوك والولاة أجمع لأمرهم وطاعة الناس لهم وتاليفهم لقلوب الناس، وكان معاوية من أحلم الناس، وكان المأمون حليمًا حتى كان يقول: لو علم الناس محبتي في العفو تقربوا إلى بالذنوب؛ ولهذا لما قدر على من نازعه في الملك ـ وهو عمه إبراهيم بن المهدي ـ عفا عنه. وأما الصبر عن الشهوات والهوى الغالب لله، لا رجاء لمخلوق ولا خوفًا منه، مع كثرة الدواعي إلى فعل الفاحشة. واختياره الحبس الطويل على ذلك كما قال يوسف: وإذا كان الصبر على الأذي لئلا يفعل الفاحشة أعظم من صبره على ظلم إخوته، فكيف بصبر الرسل على أذي المكذبين لئلا يتركوا ما أمروا به من دعوتهم إلى عبادة الله وحده، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن/ المنكر؟ ! فهذا الصبر هو من جنس الجهاد في سبيل الله، إذ كان الجهاد مقصودًا به: أن تكون كلمة الله هي العليا وأن الدين كله لله، فالجهاد والصبر فيه أفضل الأعمال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله) وهو حديث صحيح رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه، وهو من حديث معاذ بن جبل الطويل، وهو أحب الأعمال إلى الله. فالصبر على تلك المعصية صبر المهاجر الذي هجر ما نهي عنه، وصبر المجاهد الذي جاهد نفسه في الله وجاهد عدو الله الظاهر والباطن، والمهاجر الصابر على ترك الذنب إنما جاهد نفسه وشيطانه، ثم يجاهد عدو الله الظاهر؛ لتكون كلمة الله هي العليا ويكون الدين كله لله، صبر المظلوم وصبر المصاب. لكن المصاب بمصيبة سماوية تصبر نفسه ما لا تصبر نفس من ظلمه الناس، فإن ذاك يستشعر أن الله هو الذي فعل به هذا، فتيأس نفسه من الدفع والمعاقبة وأخذ الثأر، بخلاف المظلوم الذي ظلمه الناس، فإن نفسه تستشعر أن ظالمه يمكن دفعه وعقوبته وأخذ ثأره منه، فالصبر على هذه المصيبة أفضل وأعظـم كصبر يوسف ـ صلوات الله عليه وسلامه ـ وهذا يكون لأن صاحبه يعلم أن الله قدر ذلك فيصبر على ذلك كالمصائب السماوية، ويكون أيضًا لينال ثواب الكاظمين الغيظ والعافين عن/الناس والله يحب المحسنين، وليسلم قلبه من الغل للناس، وكلا النوعين يشترك في أن صاحبه يستشعر أن ذلك بذنوبه، وهو مما يكفر الله به سيئاته ويستغفر ويتوب، وأيضًا فيري أن ذلك الصبر واجب عليه، وأن الجزع مما يعاقب عليه، وإن ارتقي إلى الرضا، رأي أن الرضا جنة الدنيا، ومستراح العابدين، وباب الله الأعظم، وإن رأي ذلك نعمة لما فيه من صلاح قلبه ودينه وقربه إلى الله، وتكفير سيئاته وصونه عن ذنوب تدعوه إليها شياطين الإنس والجن شكر الله على هذه النعم. فالمصائب السماوية والآدمية تشترك في هذه الأمور، ومعرفة الناس بهذه الأمور وعلمهم بها، هو من فضل الله يمن به على من يشاء من عباده؛ ولهذا كانت أحوال الناس في المصائب وغيرها متباينة تباينًا عظيمًا، ثم إذا شهد العبد القدر وأن هذا أمرًا قدره الله وقضاه وهو الخالق له، فهو مع الصبر يسلم للرب القادر المالك الذي يفعل ما يشاء وهذا حال الصابر، وقد يسلم تسليمه للرب المحسن المدبر له بحسن اختياره الذي: (لا يقضي للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له: إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له) كما رواه مسلم في صحيحه عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا تسليم راض لعلمه بحسن اختيار الله له، وهذا يورث الشكر. وقد يسلم تسليمه للرب المحسن إليه المتفضل عليه بنعم عظيمة، وإن لم/ ير هذا نعمة، فيكون تسليمه تسليم راض غير شاكر، وقد يسلم تسليمه لله الذي لا إله إلا هو المستحق لأن يعبد لذاته، وهو محمود على كل ما يفعله، فإنه عليم حكيم رحيم، لا يفعل شيئًا إلا لحكمة، وهو مستحق لمحبته وعبادته وحمده على كل ما خلقه، فهذا تسليمُ عبدٍ عابدٍ حامدٍ، وهذا من الحمادين الذين هم أول من يُدْعَى إلى الجنة، ومن بينهم صاحب لواء الحمد، وآدم فمن دونه تحت لوائه، وهذا يكون القضاء خيرًا له ونعمة من الله عليه. لكن يكون حمده لله ورضاه بقضائه من حيث عرف الله وأحبه وعبده، لاستحقاقه الألوهية وحده لا شريك له، فيكون صبره ورضاه وحمده من عبادته الصادرة عن هذه المعرفة والشهادة، وهذا يشهد بقلبه أنه لا إله إلا الله، والإلـه عنـده هو المستحق للعبادة، بخلاف من لم يشهد إلا مجرد ربوبيته ومشيئته وقدرته، أو مجرد إحسانه ونعمته، فإنهما مشهدان ناقصان قاصران، وإنما يقتصر عليهما من نقص علمه بالله وبدينه الذي بعث به رسله وأنزل به كتبه؛ كأهل البدع من الجهمية والقدرية الجبرية والقدرية المعتزلة، فإن الأول مشهد أولئك، والثاني مشهد هؤلاء، وشهود ربوبيته وقدرته ومشيئته مع شهود رحمته وإحسانه وفضله مع شهود إلهيته ومحبته ورضاه وحمده والثناء عليه ومجده، هو مشهد أهل العلم والإيمان من أهل السنة والجماعة التابعين بإحسان/ للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار. وهذه الأمور لبسطها موضع آخر. والمقصود هنا أن هذا يكون للمؤمن في عموم المصائب، وما يكون بأفعال المؤمنين فله فيه كظم الغيظ والعفو عن الناس. ويوسف ـ الصديق صلوات الله عليه ـ كان له هذا، وأعلى من ذلك الصبر عن الفاحشة مع قوة الداعي إليها، فهذا الصبر أعظم من ذلك الصبر، بل وأعظم من الصبر على الطاعة؛ ولهذا قال سبحانه في وصف المتقين الذين أعد لهم الجنة: فوصفهم بالكرم والحلم وبالإنفاق وكظم الغيظ والعفو عن الناس، ثم لما جاءت الشهوات المحرمات وصفهم بالتوبة منها فقال: ويوسف صلى الله عليه وسلم صبر على الذنب مطلقًا، ولم يوجد منه إلا هَمٌّ تركه لله كتب له به حسنة. وقد ذكر طائفة من المفسرين أنه وجد منه بعض المقدمات، مثل حل السراويل والجلوس مجلس الخاتن ونحو ذلك، لكن ليس هذا منقولاً نقلاً يصدق به، فإن هذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومثل هذه الإسرائيليات إذا لم تنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف صدقها؛ ولهذا لا يجوز تصديقها ولا تكذيبها إلا بدليل، والله تعالى يقول في القرآن: وأما قصة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم ـ صلوات الله عليهم ـ فتلك أعظم، والواقع فيها من الجانبين، فما فعلته الأنبياء من الدعوة إلى توحيد الله وعبادته ودينه وإظهار آياته وأمره ونهيه ووعده ووعيده ومجاهدة المكذبين لهم والصبر على أذاهم هو أعظم عند الله؛ ولهذا كانوا أفضل من يوسف ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ وما صبروا عليه وعنه أعظم من الذي صبر يوسف عليه وعنه، وعبادتهم لله/وطاعتهم وتقواهم وصبرهم بما فعلوه، أعظم من طاعة يوسف وعبادته وتقواه، أولئك أولو العزم الذين خصهم الله بالذكر في قوله: والمقصود هنا أن قوله: {أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3]، قد قيل: إنه مصدر. وقيل: إنه مفعول به، والقولان متلازمان، لكن الصحيح أن القصص مفعول به وإن كان أصله مصدرًا، فقد غلب استعماله في المقصوص كما في لفظ الخبر والنبأ، والاستعمال يدل على ذلك كما تقدم ذكره، وقد اعترف بذلك أهـل اللغة. قال الجوهري: وقد قص عليه الخبر قصصًا، والاسم أيضًا: القَصَصُ ـ بالفتح ـ وضع موضع المصدر حتى صار أغلب عليه. فقوله: {أَحْسَنَ الْقَصَصِ} كقوله: نخبرك أحسن الخبر، وننبئك أحسن النبأ، / ونحدثك أحسن الحديث. ولفظ [الكلام] يراد به مصدر كَلَّمَهُ تَكْليما، ويراد به نفس القول، فإن القول فيه فعل من القائل هو مسمى المصدر، والقول ينشأ عن ذلك الفعل؛ ولهذا تارة يجعل القول نوعا من العمل لأنه حاصل بعمل، وتارة يجعل قسيما له يقال: القول والعمل وكذلك قد يقال في لفظ [القصص]، و[البيان]، و[الحديث] و[الخبر] ونحو ذلك. فإذا أريد بالقصص ونحوه المصدر الذي مسماه الفعل؛ فهو مستلزم للقول والقول تابع، وإذا أريد به نفس الكلام والقول، فهو مستلزم للفعل تابع للفعل، فالمصادر الجارية على سَنَنِ الأفعال يراد بها الفعل، كقولك: كلمته تكليما وأخبرته إخباراً، وأما ما لم يجر على سَنَنِ الفعل ـ مثل الكلام والخبر ونحو ذلك ـ فإن هذا إذا أطلق أريد به القول، وكذلك قد يقال في لفظ القصص، فإن مصدره القياسي قصًا مثل عده عدًا، ومده مدًا، وكذلك قصه قصاً، وأما قَصَصَ، فليس هو قياس مصدر المضعف ولم يذكروا على كونه مصدرًا إلا قوله:
|